فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

قالت المعتزلة: هذه الآية دالة على أنه تعالى لا يعفو عن شيء من السيئات، وليس لقائل أن يقول: هذا يشكل بالصغائر فإنها مغفورة قالوا: الجواب عنه من وجهين: الأول: أن العام بعد التخصيص حجة، والثاني: أن صاحب الصغيرة قد انحبط من ثواب طاعته بمقدار عقاب تلك المعصية، فههنا قد وصل جزاء تلك المعصية إليه.
أجاب أصحابنا عنه بأن الكلام على عموماته قد تقدم في تفسير قوله تعالى: {بلى مَن كَسَبَ سَيّئَةً وأحاطت بِهِ خَطِيئَته فأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون} [البقرة: 81] والذي نزيده في هذه الآية وجوه الأول: لم لا يجوز أن يكون المراد من هذا الجزاء ما يصل إلى الإنسان في الدنيا من الغموم والهموم والأحزان والآلام والأسقام، والذي يدل على صحة ما ذكرنا القرآن والخبر، أما القرآن فهو قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38] سمي ذلك القطع بالجزاء وأما الخبر فما روي أنه لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: كيف الصلاح بعد هذه الآية؟ فقال غفر الله لك يا أبا بكر ألست تمرض، أليس يصيبك الأذى فهو ما تجزون.
وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلًا قرأ هذه الآية فقال: أنجزى بكل ما نعمل لقد هلكنا، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم كلامه فقال: «يجزى المؤمن في الدنيا بمصيبته في جسده وما يؤذيه» وعن أبي هريرة رضي الله عنه: لما نزلت هذه الآية بكينا وحزنا وقلنا: يا رسول الله ما أبقت هذه الآية لنا شيئًا، فقال عليه الصلاة والسلام: «أبشروا فإنه لا يصيب أحد منكم مصيبة في الدنيا إلا جعلها الله له كفارة حتى الشوكة التي تقع في قدمه».
الوجه الثاني في الجواب: هب أن ذلك الجزاء إنما يصل إليهم يوم القيامة لكن لم لا يجوز أن يحصل الجزاء بنقص ثواب إيمانه وسائر طاعاته، ويدل عليه القرآن والخبر والمعقول.
أما القرآن فقوله تعالى: {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات} [هود: 114].
وأما الخبر: فما روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال: لما نزلت هذه الآية شقت على المؤمنين مشقة شديدة، وقالوا يا رسول الله وأينا لم يعمل سوءًا فكيف الجزاء، فقال عليه الصلاة والسلام: «إنه تعالى وعد على الطاعة عشر حسنات وعلى المعصية الواحدة عقوبة واحدة فمن جوزي بالسيئة نقصت واحدة من عشرة وبقيت له تسع حسنات فويلٌ لمن غلبت آحاده أعشاره».
وأما المعقول: فهو أن ثواب الإيمان وجميع الطاعات أعظم لا محالة من عقاب الكبيرة الواحدة والعدل يقتضي أن يحط من الأكثر مثل الأقل، فيبقى حينئذٍ من الأكثر شيء زائد فيدخل الجنة بسبب تلك الزيادة.
الوجه الثالث في الجواب: أن هذه الآية إنما نزلت في الكفار، والذي يدل على ما ذكرناه أنه تعالى قال بعد هذه الآية {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات مِن ذَكَرٍ أَوْ اثنى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة} [النساء: 124] فالمؤمن الذي أطاع الله سبعين سنة ثم شرب قطرة من الخمر فهو مؤمن قد عمل الصالحات، فوجب القطع بأنه يدخل الجنة بحكم هذه الآية، وقولهم: خرج عن كونه مؤمنًا فهو باطل للدلائل الدالة على أن صاحب الكبيرة مؤمن، مثل قوله: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} إلى قوله: {فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى} [الحجرات: 9] سمي الباغي حال كونه باغيًا مؤمنًا، وقال: {يا أيها الذين ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} [البقرة: 178] سمي صاحب القتل العمد العدوان مؤمنًا، وقال: {يا أيها الذين ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى الله} [التحريم: 8] سماه مؤمنًا حال ما أمره بالتوبة، فثبت أن صاحب الكبيرة مؤمن، وإذا كان مؤمنًا كان قوله تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات} حجة في أن المؤمن الذي يكون صاحب الكبيرة من أهل الجنة، فوجب أن يكون قوله: {مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} مخصوصًا بأهل الكفر.
الوجه الرابع في الجواب: هب أن النص يعم المؤمن والكافر، ولكن قوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48] أخص منه والخاص مقدم على العام، ولأن إلحاق التأويل بعمومات الوعيد أولى من إلحاقه بعمومات الوعد لأن الوفاء بالوعد كرم، وإهمال الوعيد وحمله على التأويل بالتعريض جود وإحسان. اهـ.
قال الفخر:
دلّت الآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع لأن قوله: {مَن يَعْمَلْ سُوءا} يتناول جميع المحرمات، فدخل فيه ما صدر عن الكفار مما هو محرم في دين الإسلام ثم قوله: {يُجْزَ بِهِ} يدل على وصول جزاء كل ذلك إليهم.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون ذلك الجزاء عبارة عما يصل إليهم من الهموم والغموم في الدنيا.
قلنا: إنه لابد وأن يصل جزاء أعمالهم الحسنة إليهم في الدنيا إذ لا سبيل إلى إيصال ذلك الجزاء إليهم في الآخرة، وإذا كان كذلك فهذا يقتضي أن يكون تنعمهم في الدنيا أكثر ولذاتهم هاهنا أكمل، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر» وإذا كان كذلك امتنع أن يقال: إن جزاء أفعالهم المحظورة تصل إليهم في الدنيا، فوجب القول بوصول ذلك الجزاء إليهم في الآخرة. اهـ.
قال الفخر:
قالت المعتزلة: دلت الآية على أن العبد فاعل، ودلت أيضًا على أنه بعمل السوء يستحق الجزاء، وإذا دلت الآية على مجموع هذين الأمرين فقد دلت على أن الله غير خالق لأفعال العباد، وذلك من وجهين: أحدهما: أنه لما كان عملًا للعبد امتنع كونه عملًا لله تعالى لاستحالة حصول مقدور واحد بقادرين، والثاني: أنه لو حصل بخلق الله تعالى لما استحق العبد عليه جزاء ألبتة وذلك باطل، لأن الآية دالة على أن العبد يستحق الجزاء على عمله، واعلم أن الكلام على هذا النوع من الاستدلال مكرر في هذا الكتاب. اهـ.

.قال السمرقندي:

مرّ ابن عمر على ابن الزبير وهو مصلوب، فنظر إليه فقال: يغفر الله لك ثلاثًا، والله ما علمتك إلا كنت صوامًا قوامًا وصّالًا للرحم، أما والله إني لأرجو مع مساوئ ما أصبت أن لا يعذبك الله بعدها أبدًا، ثم التفت فقال: سمعت أبا بكر الصديق يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ فِي الدُّنْيَا» وروى محمد بن قيس، عن أبي هريرة قال: لما نزلت {مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} شق ذلك على المسلمين، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «قَارِبُوا وَسَدِّدُوا فَكُلُّ مَا يُصِيبُ المُؤْمِنَ كَفَّارَةٌ حَتَّى الشَّوْكَةُ تُشَاكُهُ والنَّكْبَةُ تَنْكُبُهُ». اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ الله وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا} يعني المشركين؛ لقوله تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد} [غافر: 51].
وقيل: {مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ} إلاَّ أن يتوب.
وقراءة الجماعة {وَلاَ يَجِدْ لَهُ} بالجزم عطفًا على {يُجْزَ بِهِ} وروى ابن بكّار عن ابن عامر {وَلاَ يَجِدُ} بالرفع استئنافًا.
فإن حملت الآية على الكافر فليس له غدًا ولِيّ ولا نصير.
وإن حملت على المؤمن فليس (له) ولِيّ ولا نصير دون الله. اهـ.

.قال الفخر:

قالت المعتزلة: دلت الآية على نفي الشفاعة، والجواب من وجهين:
الأول: أنا قلنا أنَّ هذه الآية في حق الكفار.
والثاني: أن شفاعة الأنبياء والملائكة في حق العصاة إنما تكون بإذن الله تعالى، وإذا كان كذلك فلا ولي لأحد ولا نصير لأحد إلا الله سبحانه وتعالى. اهـ.

.قال ابن عطية:

العقيدة في هذا: أن الكافر مجازى والمؤمن يجازى في الدنيا غالبًا، فمن بقي له سوء إلى الآخرة فهو في المشيئة، يغفر الله لمن يشاء، ويجازي من يشاء. اهـ.

.قال في روح البيان:

قال النيسابورى حكمة تضعيف الحسنات لئلا يفلس العبد إذا اجتمع الخصماء في طاعته فيدفع إليهم واحدة ويبقى له تسع فمظالم العباد توفى من التضعيفات لا من أصل حسناته لأن التضعيف فضل من الله تعالى وأصل الحسنة الواحدة عدل منه واحدة بواحدة.
وقد ذكر الإمام البيهقى في كتاب البعث فقال:
إن التضعيفات فضل من الله تعالى لا تتعلق بها العباد كما لا تتعلق بالصوم بل يدخرها الحق للعبد فضلا منه سبحانه فإذا دخل الجنة أثابه بها. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ولا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكتاب} الآية.
لم يبين هنا شيئًا من أمانيهم، ولا من أماني أهل الكتاب، ولكنه أشار إلى بعض ذلك في مواضع أخر كقوله في أماني العرب الكاذبة: {وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلاَدًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ: 35] وقوله عنهم: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام: 29] ونحو ذلك من الآيات، وقوله في أماني أهل الكتاب: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} [البقرة: 111] الآية. وقوله: {وَقَالَتِ اليهود والنصارى نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] الآية. ونحو ذلك من الآيات.
وما ذكره بعض العلماء من أن سبب نزول الآية أن المسلمين وأهل الكتاب تفاخروا، فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم فنحن أولى بالله منكم، وقال المسلمون: نحن أولى بالله منكم ونبينا خاتم النَّبيين، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله فأنزل الله: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} الآية. لا ينافي ما ذكرنا. لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)}
مَنْ زَرَعَ الحنظل لم يجتْنِ الورد والعبهر، ومن شرب السُّمَّ الزَّعاف لم يجد طعم العسل، كذلك مَنْ ضيَّعَ حقَّ الخدمة لم يستمكِنْ على بساط القربة، وَمَنْ وُسِمَ بالشِّقوة لم يُرْزَقْ الصفوة، ومَنْ نَفَتْه القضية فلا ناصرَ له من البَريَّة. اهـ.

.من فوائد الخازن في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب} قولان: أحدهما أنه خطاب للمسلمين وأهل الكتاب اليهود والنصارى وذلك أنهم افتخروا فقال أهل الكتاب نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم فنحن أولى بالله منكم.
وقال المسلمون نبينا خاتم الأنبياء وكتابنا يقضي على الكتب وقد آمنا بكتابكم ولم تؤمنوا بكتابنا فنحن أولى بالله منكم.